الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والمراد بالعالمين: الأمم والقرون وهو كناية عن دوام السلام عليه كقوله تعالى: {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًا} [مريم: 15] في حق عيسى عليه السلام وكقوله: {سلام على آلْ يَاسينَ} [الصافات 130] {سلام على إبراهيم} [الصافات 109].وفي {العالَمِينَ} حال فهو ظرف مستقر أو خبر ثان عن {سَلامٌ}.وذهب الكسائي والفراء والمبرد والزمخشري إلى أن قوله: {سَلامٌ على نوح في العالمين} في محلّ مفعول {تركنا} أي تركنا عليه هذه الكلمة وهي {سلامٌ على نوححٍ في العالَمِينَ} وهو من الكلام الذي قصدت حكايته كما تقول قرأت {سورة أنزلناها وفرضناها} [النور: 1]، أي جعلنا الناس يسلمون عليه في جميع الأجيال، فما ذكروه إلا قالوا: عليه السلام.ومثل ذلك قالوا في نظائرها في هذه الآيات المتعاقبة.وزيد في سَلام نوح في هذه السورة وصْفُه بأنه في العالمين دون السلام على غيره في قصة إبراهيم وموسى وهارون وإلياس للإِشارة إلى أن التنويه بنوح كان سائرًا في جميع الأمم لأنهم كلهم ينتمون إليه ويذكرونه ذكر صدق كما قدمناه آنفًا.وجملة {إنَّا كذلك نجزي المُحسنين} تذييل لما سبق من كرامة الله نوحًا.و{إنّ} تفيد تعليلًا لمجازاة الله نوحًا بما عده من النعم بأن ذلك لأنه كان محسنًا، أي متخلقًا بالإِحسان وهو الإِيمان الخالص المفسّر في قول النبي صلى الله عليه وسلم «الإِحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وأي دليل على إحسانه أجلى من مصابرته في الدعوة إلى التوحيد والتقوى وما ناله من الأذى من قومه طول مدة دعوته.والمعنى: إنا مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين.وفي هذا تنويه بنوح عليه السلام بأن جزاءه كان هو المثال والإِمامَ لجزاء المحسنين على مراتب إحسانهم وتفاوت تقَارُبِها من إحسان نوح عليه السلام وقوته في تبليغ الدعوة.فهو أول من أوذي في الله فسَنَّ الجزاءَ لمن أوذي في الله، وكان على قَالَب جزائه، فلعله أن يكون له كفل من كل جزاء يُجزاه أحد على صبره إذا أوذي في الله، فثبت لنوح بهذا وصف الإِحسان، وهو النعمة السابعة.وثبت له أنه مَثَل للمحسنين في جزائهم على إحسانهم، وهي النعمة الثامنة.وجملة {إنَّه من عِبادنَا المُؤمنين} تعليل لاستحقاقه المجازاة الموصوفة بقوله: {كذلك نَجزي المحسنين} فاختلف معلول هذه العلة ومعلول العلة التي قبلها.وأفاد وصفه ب {إنَّه من عِبَادِنَا} أنه ممن استحق هذا الوصف، وقد علمت غير مرة أن وصف عبد إذا أضيف إلى ضمير الجلالة أشعر بالتقريب ورفع الدرجة، اقتصر على وصف العباد بالمؤمنين تنويهًا بشأن الإِيمان ليزداد الذين آمنوا إيمانًا ويقلع المشركون عن الشرك.وهذه نعمة تاسعة.وأقحم معها من {عبادنا} لتشريفه بتلك الإضافة على نحو ما تقدم آنفًا في قوله تعالى: {إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم} [الصافات 40- 41] وهذه نعمة عاشرة، وفي ذلك تنبيه على عظيم قدر الإِيمان.وفي هذه القصة عبرة للمشركين بما حلّ بقوم نوح وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وجعل نوح قدوة له، وإيماء إلى أن الله ينصره كما نصر نوحًا على قومه وينجّيه من أذاهم وتنويه بشأن المؤمنين.و{ثم} التي في قوله: {ثم أغرقنا الآخرينَ} للترتيب والتراخي الرتبيين لأن بعض ما ذكر قبلها في الكلام هو مما حصل بعد مضمون جملتها في نفس الأمر كما هو بيّن، ومعنى التراخي الرتبي هنا أن إغراق الذين كذّبوه مع نجاته ونجاة أهله، أعظم رتبة في الانتصار له والدلالة على وجاهته عند الله تعالى وعلى عظيم قدرة الله تعالى ولطفه.ومعنى {الآخرِينَ} مَن عَداهُ وعدا أهله، أي بقية قومه، وفي التعبير عنهم بالآخرين ضرب من الاحتقار.ومما في الحديث أنه جاءه رجل فقال: «إن الآخر قد زنى» يعني نفسه على رواية الآخر بمدّ الهمزة وهي إحدى روايتين في الحديث.وتقدم ذكر نوح وقصته عند قوله تعالى: {إن اللَّه اصطفى آدم ونوحًا} في [آل عمران: 33]، وفي الأعراف، وفي سورة هود، وذكرُ سفينته في أول سورة العنكبوت. اهـ.فائدة:
.قال ابن القيم: قوله تعالى عن نوح عليه السلام: {وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين} وقال تعالى عن إبراهيم خليله: {وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم}الصافات 108 و109.وقال تعالى في موسى وهارون: {وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون} الصافات 119 و12.وقال تعالى: {سلام على إلياسين} الصافات 130 فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين هو السلام عليهم المذكور.وقد قال جماعة من المفسرين منهم مجاهد وغيره وتركنا عليهم في الآخرين الثناء الحسن ولسان الصدق للانبياء كلهم وهذا قول قتادة أيضا ولا ينبغي أن يحكى هذا قولين للمفسرين كما يفعله من له بحكاية الأقوال بل هما قول واحد فمن قال إن المتروك هو السلام عليهم في الآخرين نفسه فلا ريب أن قوله سلام على نوح جملة في موضع نصب ب تركنا والمعنى أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن نظر إلى لازم السلام وموجبة وهو الثناء عليهم وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لاجله إذا ذكروا سلم عليهم.وقد زعمت طائفة منهم ابن عطية وغيره أن من قال تركنا عليه ثناء حسنا ولسان صدق كان سلام على نوح في العالمين جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب وهو سلام من الله سلم به عليه قالوا فهذا السلام من الله امنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشر قاله الطبري.وقد يقوي هذا القول انه سبحانه اخبر أن المتروك عليه هو في الآخرين وان السلام عليه في العالمين وبأن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابقى الله عليه ثناء حسنا.وهذا القول ضعيف لوجوه:أحدها انه يلزم منه حذف المفعول ل تركنا ولا يبقى في الكلام فائدة على التقدير فإن المعنى يؤول إلى انا تركنا عليه في الآخرين امرا مالا ذكر له في اللفظ لان السلام عند هذا القائل منقطع مما قبله لا تعلق له بالفعل.الثاني انه لو كان المفعول محذوفا كما ذكروه لذكره في موضع واحد ليدل على المراد منه حذفه ولم يطرد في جميع من اخبر انه ترك عليه في الآخرين الثناء الحسن وهذه طريقة القرآن بل وكان فصيح أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع اخر لدلالة المذكور على المحذوف واكثر ما تجده مذكورا.وحذفه قليل واما أن يحذف حذفا مطردا ولم يذكره في موضع واحد ولا في اللفظ ما يدل عليه فهذا لا يقع في القرآن.الثالث أن في قراءة ابن مسعود {وتركنا عليه في الآخرين سلاما} بالنصب وهذا وهذا يدل على أن المتروك هو السلام نفسه.الرابع انه لو كان السلام منقطعا مما قبله لاخل ذلك بفصاحة الكلام وجزالته ولما حسن الوقوف على ما قبله وتأمل هذا بحال السامع إذا سمع قوله وتركنا عليه في الآخرين كيف يجد قلبه متشوقا متطلعا إلى تمام الكلام واجتناء الفائدة منه ولا يجد فائدة الكلام انتهت وتمت ليطمئن عندها بل يبقى طالبا لتمامها وهو المتروك فالوقف على الآخرين ليس بوقف تام.فإن قيل فيجوز حذف المفعول من هذا الباب لان ترك هنا بمعنى اعطى لانه اعطاه ثناءا حسنا ابقاه عليه في الآخرين ويجوز في باب اعطى ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما وقد وقع ذلك في القرآن كقوله انا اعطيناك الكوثر فذكرهما.وقال تعالى {فأما من أعطى الليل} فحذفهما.وقال تعالى {ولسوف يعطيك ربك} الضحى فحذف الثاني واقتصر على الأول.وقال يؤتون الزكاة فحذف الأول واقتصر على الثاني قيل فعل الاعطاء فعل مدح فلفظه دليل على أن المفعول المعطى قد ناله عطاء المعطي والاعطاء احسان ونفع وبر فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب الغرض المطلوب من الفعل فإن كان المقصود ايجاد ماهية الاعطاء المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع المنافي للاحسان ذكر الفعل مجردا كما قال تعالى {فأما من اعطى واتقى} ولم يذكر ما أعطى ولا من اعطى وتقول فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن.وقال النبي اللهم لا مانع لما اعطيت ولا معطي لما منعت لما كان المقصود بهذا تفرد الرب سبحانه بالعطاء والمنع لم يكن لذكر المعطى ولا لحظ المعطى معنى بل المقصود أن حقيقة العطاء والمنع اليك لا إلى غيرك بل أنت المتفرد بها لا يشركك فيها أحد فذكر المفعولين هنا يخل بتمام المعنى وبلاغته وإذا كان المقصود ذكرهما ذكرا معا كقوله تعالى {انا اعطيناك الكوثر الكوثر} فإن المقصود اخباره لرسوله بما خصه به واعطاه اياه من الكوثر ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين وكذا قوله تعالى {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا} [الانسان 8] وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه كقوله تعالى {ويؤتون الزكاة} المقصود به انهم يفعلون هذا الواجب عليهم ولا يهملونه فذكره لانه هو المقصود وقوله عن أهل النار {لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر 43 44] لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للاطعام انهم بخلوا عنه ومنعوه حقه من الاطعام وقست قلوبهم عنه كان ذكره هو المقصود دون المطعوم.وتدبر هذه الطريقة في القرآن وذكره للاهم المقصود وحذفه لغيره يطلعك على باب من ابواب اعجازه وكمال فصاحته.واما فعل الترك فلا يشعر بشيء من هذا ولا يمدح به فلو قلت فلان يترك لم يكن مفيدا فائدة اصلا بخلاف قولك يطعم ويعطي ويهب ونحوه بل لابد أن تذكر ما يترك ولهذا لا يقال فلان تارك ويقال معط ومطعم ومن اسمائه سبحانه المعطي فقياس ترك على اعطى من افسد القياس وسلام على نوح في العالمين الصافات 79 جملة محكية.قال الزمخشري وتركنا عليه في الآخرين الصافات 78 من الامم هذه الكلمة وهي سلام على نوح يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقولك قرأت سورة انزلناها.الخامس انه قال سلام على نوح في العالمين فأخبر سبحانه أن هذا السلام عليه في العالمين ومعلوم أن هذا السلام فيهم هو سلام العالمين عليه كلهم يسلم عليه ويثني عليه ويدعو له فذكره بالسلام عليه فيهم واما سلام الله سبحانه وتعالى عليه فليس مقيدا بهم ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى مثل ذلك فلا يقال السلام على رسول الله في العالمين ولا اللهم صل وسلم على رسولك في العالمين ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم به.واما قولهم أن الله سلم عليه في العالمين وترك عليه في الآخرين فالله سبحانه وتعالى ابقى على انبيائه ورسله سلاما وثناء حسنا فيمن تأخر بعدهم جزاء على صبرهم وتبليغهم رسالات ربهم.واحتمالهم للاذى من اممهم في الله واخبر أن هذا المتروك على نوح هو عام في العالمين وان هذه التحية ثابتة فيهم جميعا لا يخلون منها فادامها عليه في الملائكة والثقلين طبقا بعد طبق وعالما بعد عالم مجازاة لنوح عليه السلام بصبره وقيامه بحق ربه وبأنه أول رسول ارسله الله إلى أهل الأرض وكل المرسلين بعده بعثوا بدينه كما قال تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} الشورى 13.وقولهم أن هذا قول ابن عباس فقد تقدم أن ابن عباس وغيره إنما ارادوا بذلك أن السلام عليه من الثناء الحسن ولسان الصدق فذكروا معنى السلام عليه وفائدته والله سبحانه اعلم. اهـ..قال أبو حيان في الآيات السابقة: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}.لما انقضت قصة المؤمن وقرينه، وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء إلى شيء، عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعده الله فيها لأهلها فقال: أذلك الرزق {خير نزلًا} والنزل ما يعد للأضياف، وعادل بين ذلك الرزق وبين {شجرة الزقوم}.فلاستواء الرزق المعلوم يحصل به اللذة والسرور، وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم، فلا اشتراك بينهما في الخيرية.والمراد تقرير قريش والكفار وتوقيفهم على شيئين، أحدهما فاسد.ولو كان الكلام استفهامًا حقيقة لم يجز، إذ لا يتوهم أحد أن في شجرة الزقوم خيرًا حتى يعادل بينهما وبين رزق الجنة.ولكن المؤمن، لما اختار ما أدّى إلى رزق الجنة، والكافر اختار ما أدّى إلى شجرة الزقوم، قيل ذلك توبيخًا للكافرين وتوقيفًا على سوء اختيارهم.{إنا جعلناها فتنة للظالمين} قال قتادة، ومجاهد، والسدي: أبو جهل ونظراؤه، لما نزلت قال للكفار، يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار، وهي تأكلها وتذهبها، ففتنوا بذلك أنفسهم وجملة أتباعهم.وقال أبو جهل: إنما الزقوم: التمر بالزبد، ونحن نتزقمه.وقيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.واستعير الطلع، وهي النخلة، لما تحمل هذه الشجرة، وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رؤوس الشياطين، وهي بناحية اليمن يقال لها الاستن، وذكرها النابغة في قوله:وهو شجر خشن مر منكر الصورة، سمت ثمره العرب بذلك تشبها برؤوس الشياطين، ثم صار أصلًا يشبه به.وقيل: هو شجرة يقال لها الصوم، ذكرها ساعدة بن حوبة الهذلي في قوله: وقيل: الشياطين صنف من الحيات ذوات أعراف، ومنه: وقيل: شبه بما اشتهر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها، وإن كانت غير مرئية، ولذلك يصورون الشيطان في أقبح الصور.
|